كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقد قدمنا هذا موضحًا في سورة الحجر في الكلام على قوله تعالى: {وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ} [الحجر: 17].
{ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55)}.
قد قدمنا إيضاح هذا وتفسيره في سورة الصافات في الكلام على قوله: {ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ} [الصافات: 67].
{هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56)}.
النزل بضمتين: هو رزق الضيف الذي يقدم له نزوله إكرامًا له، ومنه قوله تعالى: {إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الفردوس نُزُلًا} [الكهف: 107]، وربما استعملت العرب النزول في ضد ذلك على سبيل التهكم والاحتقار، وجاء القرآن باستعمال النزول فيما يقدم لأهل النار من العذاب كقوله هنا: في عذابهم المذكور في قولهم: {لآكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ} [الواقعة: 52]- إلى قوله- {شُرْبَ الهيم هذا نُزُلُهُمْ} [الواقعة: 55- 56] أي هذا العذاب المذكور هو ضيافتهم ورزقهم المقدم لهم عند نزولهم في دارهم التي هي النار، كقوله تعالى للكافر الحقير الذليل: {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم} [الدخان: 49].
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من إطلاق النزول على عذاب أهل النار، جاء موضحًا في غير هذا الموضع كقوله في آخر هذه السورة الكريمة: {فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} [بالواقعة: 93- 94]، وقوله تعالى في آخر الكهف: {إِنَّآ أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا} [الكهف: 102] ونظير ذلك من كلام العرب قول أبي السعد الضبي:
وكنا إذا الجبار بالجيش ضافنا ** جعلنا القنا والمرهفات له نزلًا

وقوله: {يَوْمَ الدِّينِ} أي يوم الجزاء كما تقدم مرارًا.
{نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57)}.
لما أنكر الكفار بعثهم وآباءهم الأولين، وأمر الله رسوله أن يخبرهم أنه تعالى باعث جميع الأولين والآخرين، وذكر جزاء منكري البعث بأكل الزقوم وشرب الحميم، أتبع ذلك بالبراهين القاطعة الدالة على البعث فقال: نحن خلقناكم هذا الخلق الأول فلولا تصدقون. أي فهل لا تصدقون بالبعث الذي هو الخلق الثاني، لأن إعادة الخلق لا يمكن أن تكون أصعب من ابتدائه كما لا يخفى.
وهذا البرهان على البعث بدلالة الخلق الأول على الخلق الثاني، جاء موضحًا في آيات كثيرة جدًا كقوله تعالى: {وَهُوَ الذي يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27]، وقوله: {كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَآ إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 104]، وقوله تعالى: {يا أيها الناس إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ البعث فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ} [الحج: 5] وقوله تعالى: {قُلْ يُحْيِيهَا الذي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس: 79]، وقوله تعالى: {فَسَيَقولونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الذي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الإسراء: 51]، والآيات بمثل هذا كثيرة معلومة، وقد ذكرناها بإيضاح وكثرة في مواضع كثيرة من هذا الكتاب المبارك في سورة البقرة والنحل والحج والجاثية، وغير ذلك من المواضع وأحلنا عليها كثيرًا.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {فَلَوْلاَ تُصَدِقُونَ} لولا حرف تحضيض، ومعناه الطلب بحث وشدة، فالآية تدل على شدة حث الله للكفار وحضه لهم على التصديق بالبعث لظهور برهانه القطع الذي هو خلقه لهم أولًا.
{أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59)}.
قد قدمنا قريبًا كلام أهل العلم في همزة الاستفهام المتبوعة بأداة عطف، وذكرناه قبل هذا مرارًا، وقوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ} يعني أفرأيتم ما تصبونه من المني في أرحام النساء، فلفظة ما موصولة، والجملة الفعلية صلة الموصول، والعائد غلى الصفة محذوف، لأنه منصوب بفعل، والتقدير: أفرأيتم ما تمنونه، والعرب تقول: أمنى النطفة بصيغة الرباعي، يمنيها بضم حرف المضارعة، إذا أرقها في رحم المرأة، ومنه قوله تعالى: {مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تمنى} [النجم: 46] ومنى يمنى بصيغة الثلاثي لغة صحيحة. إلا ان القراءة بها شاذة.
وممن قرأ {تمنون} بفتح مضارع في الثلاثي المجرد، أبو السمال وابن السميقع، وقوله تعالى: {أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَم نَحْنُ الخالقون} استفهام تقرير، فإنهم لابد أن يقولوا: أنتم الخالقون، فيقال لهم: إذا كنا خلقنا هذا الإنسان الخصيم المبين من تلك النطفة التي تمنى في الرحمن، فكيف تكذبون بقدرتان على خلقه مرة أخرى، وأنتم تعلمون أن الإعادة لا يمكن أن تكون أصعب من الابتداء، والضمير المنصوب في تخلقونه عائد إلى الموصول أي تخلقون ما تمنونه من النطف علقًا، ثم مضغًا إلى آخر أطواره.
وهذا الذي تضمنته هذه الآية من البراهين القاطعة على كمال قدرة الله على البعث وغيره، وعلى أنه المعبود وحده، ببيان أطوار خلق الإنسان، جاء موضحًا في آيات أخر، وقد قدمنا الكلام على ذلك مستوفىً بالآيات القرآنية، وبينا ما يتعلق بكل طور من أطواره من الأحكام الشرعية في سورة الحج في الكلام على قوله تعالى: {يا أيها الناس إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ البعث فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ} [الحج: 5] الآية.
وذركنا أطوار خلق الإنسان في سورة الرحمن أيضًا في الكلام على قوله تعالى: {خَلَقَ الإنسان عَلَّمَهُ البيان} [الرحمن: 3- 4] وفي غير ذلك من المواضع.
وبينا الآيات الدالة على أطوار خلقه جملة وتفصيلًا في الحج.
تنبيه.
هذا البرهان الدال على البعث الذي هو خلق الإنسان من نطفة منى تمنى، يجب على كل إنسان النظر فيه، لأن الله جل وعلا وجه صفة الأمر بالنظر فيه إلى مني الإنسان، والأصل في صيغة الأمر على التحقيق الوجوب إلا لدليل صارف عنه، وذلك في قوله تعالى: {فَلْيَنظُرِ الإنسان مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ} [الطارق: 5- 6] الآية، وقد قدمنا شرحها في أول سورة النحل، وقرأ هذا الحرف نافع، {أَفَرَءَيْتُم} بتسهيل الهمزة بعد الراء بين بين.
والرواية المشهورة التي بها الأداء عن ورش عن إبدال الهمزة ألفًا وإشباعها لسكون الياء بعدها.
وقرأه الكسائي: {ءَأَنتُمْ} بحذف الهمزة، وقرأه باقي السبعة بتحقيق الهمزة.
وقوله تعالى: {ءَأَنتُمْ} قرأه نافع وابن كثير وأبو عمرو وهشام عن ابن عامر في إحدى الروايتين بتسهيل الهمزة الثانية، والرواية المشهورة التي بها الأداء عن ورش عن نافع إبدال الثانية ألفًا مشبعًا مدها لسكون النون بعدها، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي وهشام عن ابن عامر في الرواية الأخرى بتحقيق الهمزتين، وقالون، وأبو عمرو وهشام بألف الإدخال بين الهمزتين والباقون بدونها.
{نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61)}.
قرأ هذا الحرف عامة القراء السبعة غير ابن كثير {قَدَّرْنَا} بتشديد الدال، وقرأه ابن كثير بتخفيفها، وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن الآية الكريمة قد يكون فيها وجهان أو أكثر من التفسير، ويكون كل ذلك صحيحًا، وكله يشهد له قرآن، فنذكر الجميع وأدلته من القرآن، ومن ذلك هذه الآية الكريمة.
وإيضاح ذلك أن قوله: {قَدَّرْنَا} وجهين من التفسير وفيما تتعلق به {على أَن نُّبَدِّلَ} وجهان أيضًا، فقال بعض العلماء: وهو اختيار ابن جرير أن قوله: {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الموت} أي قدرنا لموتكم آجالًا مختلفة وأعمارًا متفاوتة فمنكم من يموت صغيرًا ومنكم من يموت شبابًا، ومنكم من يموت شيخًا.
وهذا المعنى دلت عيله آيات كثيرة من كتاب الله كقوله تعالى: {ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لتبلغوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُمْ مَّن يتوفى وَمِنكُمْ مَّن يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ العمر} [الحج: 5] وقوله تعالى: {ثُمَّ لِتَكُونُواْ شُيُوخًا وَمِنكُمْ مَّن يتوفى مِن قَبْلُ ولتبلغوا أَجَلًا مُّسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [غافر: 67] وقوله تعالى: {وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ} [فاطر: 10] وقوله تعالى: {وَلَن يُؤَخِّرَ الله نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَآ} [المنافقون: 11] وقوله: {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} أي ما نحن بمغلوبين، العرب تقول: سبقه على كذا أي غلبه عليه وأعجزه عن إدراكه أي وما نحن مبغلوبين على ما قدرنا من آجالكم وحددناه من أعماركم فلا يقدر أحد أن يقدم أجلًا أخرناه ولا يؤخر أجلًا قدمناه.
وهذا المعنى دلت عليه آيات كثيرة كقوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} [الاعراف: 34] وقوله تعالى: {لاَ يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [نوح: 4] الآية، وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَابًا مُّؤَجَّلًا} [آل عمران: 145] إلى غير ذلك من الآيات.
وعلى هذا القول، فقوله تعالى: {على أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ} ليس متعلقًا بمسبوقين بل بقوله تعالى: {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الموت} والمعنى: نحن قدرنا بينكم الموت على أن نبدل أمثالكم، أي نبدل من الذين ماتوا أمثالًا لهم نوجدهم.
وعلى هذا، فمعنى تبديل أمثالهم إيجاد آخرين من ذرية أولئك الذين ماتوا وهذا المعنى تشهد له آيات من كتاب الله كقوله تعالى: {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُمْ مَّا يَشَاءُ كَمَآ أَنشَأَكُمْ مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ} [الأنعام: 133] إلى غير ذلك من الآيات.
وهذا التفسير هو اختيار ابن جرير، وقراءة {قدرنا} بالتشديد مناسبة لهذا الوجه، وكذلك لفظة بينكم.
الوجه الثاني: أن قدرنا بمعنى قضينا وكتبنا أي كتبنا الموت وقدرناه على جميع الخلق، وهذا الوجه تشهد له آيات من كتاب الله كقوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص: 88]، وقوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الموت} [آل عمران: 185]، وقوله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الحي الذي لاَ يَمُوتُ} [الفرقان: 85]، وعلى هذا القول فقوله: {على أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ}: متعلق بمسبوقين أي ما نحن مغلوبين والمعنى وما نحن بمغلوبين على أن نبدل أمثالكم إن أهلكناهم لو شئنا فنحن قادرون على إهلاككم، ولا يوجد أحد يغلبنا ويمنعنا من خلق أمثالكم بدلًا منكم.
وهذا المعنى تشهد له آيات من كتاب الله كقوله تعالى: {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا الناس وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ الله على ذلك قَدِيرًا} [النساء: 133] وقوله تعالى: {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُمْ مَّا يَشَاءُ} [الأنعام: 133]، وقوله تعالى: {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذلك عَلَى الله بِعَزِيزٍ} [إبراهيم: 19- 20] وقوله تعالى: {وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يكونوا أَمْثَالَكُم} [محمد: 38] وقد قدمنا هذا في سورة النساء في الكلام على قوله تعالى: {}
صفحة البداية الفهرس << السابق 21642  من  23844 التالى >> إخفاء التشكيل